والاستقصاء والاستطلاع ، فتكون النتيجة التي نخلص إليها عادة ، أن الحكومات في
معظمها ، هي خصم لحرية الصحافة ، وبصفة أعم لحرية الرأي والتعبير على اتساعها ، من
دون أن نغفل دور المجتمع بـ"رقاباته" المختلفة من دينية وقبلية وتراثية إلى غير ما
هنالك من أشكال "الرقابات" وصنوفها ، في إلحاق إعاقة مزمنة بالصحافة ووسائل
الإعلام.
ولقد أظهر استطلاع لمركز حماية وحرية الصحفيين ، أن 94 بالمائة من
الصحفيين يمارسون نوعا من الرقابة الذاتية ، وهذا أمر مختلف عن التقيّد بالمعايير
المهنية والالتزام بأخلاقيات المهنة ، أي أن "الإعلاميين المرعوبين" وفقا لتوصيفات
بعض الساسة – الذين لا يقلون ارتعابا على ما أعتقد – ينوبون عن أجهزة الرقابة
الأمنية والحكومية في القيام بمهامها ، ويوفرون عليها عنتا وجهدا
إضافيين.
كل ما سبق ، قيل ويقال ويتردد في كل مناسبة نتحدث فيها عن "حال
الحريات الصحفية والإعلامية" في الأردن وغيره من بلادنا العربية ، لكن المسكوت عنه
في هذا المجال ، هو مسؤولية الجسم الصحفي في حماية حقوقه والذود عن حرياته ، فقد
نجحت أجهزة "السلطة" العربية ودوائرها المختلفة ، ليس بإدخال الرعب في نفوس
الصحفيين والإعلاميين فحسب ، بل والأخطر ، في بث "فيروس" الانتهازية و"بكتيريا"
الوصولية في عروق الجسم الصحفي ـ الإعلامي وشرايينه ، فكثير من الصحفيين
والإعلاميين والكتاب والمحللين ، باتوا جزءا مندمجا في السلطة وأداة لتجديدها
وتبرير سلوكها ، وأصبحوا ذراعا إيديولوجيا للنظم والحكومات القائمة. كثير من هؤلاء
، إن لم نقل معظمهم ، ما عاد ينظر للصحافة كمهنة نهائية له ، فهو دائم التطلع لما
بعد الصحافة وما ورائها ، ويكفي أن نستعرض قائمة "المستشارين" في الوزارات الحكومية
والدوائر التابعة لها ، يكفي أن ندقق في أسماء أعضاء مجالس الإدارات والأمانات
والبلديات وغيرها ، يكفي أن نستجمع سيل المعلومات والخبريات عن "الأعطيات والهبات
والمغلفات" حتى ندرك حجم الاختراق الذي أصاب الجسم الصحفي والإعلامي ، وعمق التطلع
لمغادرة المهنة إلى المنصب الحكومي ، أو توظيفها "لاستدرار" المنافع والمكاسب.
وبقليل من الصراحة نقول ، أن طبقة جديدة – لست متأكدا من مدى جدتها – قد نشأت داخل
الجسم الصحفي والإعلامي ، طبقة تماهت مع "المؤسسة" وباتت جزءا منها ، مستفيدة من
مكتسباتها ومزاياها ، بل أصبحت تضم في صفوفها جيل من الصحفيين والكتاب ، الذين
قفزوا بين عشية وضحاها إلى رأس هرم المؤسسات الإعلامية بسبب علاقات "زبائنية" مع
بعض المتنفذين ومراكز القوى وصناع القرار. هؤلاء يدركون أنهم باقون في مناصبهم لذات
الأسباب التي جاءت بهم إليها ، والأرجح أنهم الأشد بأسا في السعي لتأبيد "حال
الصحافة" ومصادرة حرياتها وإضعاف مهنيتها وضرب أخلاقياتها ، فاحترام هذه الأركان
الثلاثة: "حرية ، مهنية وأخلاق" ستكون عواقبه وخيمة عليهم أولا. وإلى أن نصل إلى
اليوم الذي تصبح فيه الصحافة مهنة نهائية لأصحابها وملاذا أخيرا لهم ، لا سلما
للزبائنية والانتهازية والوصولية ، سنظل نشكو "رقاباتنا" الداخلية ، ورعبنا المقيم
وحرياتنا الناقصة وسلطتنا الغائبة.