ل يقتل الطموح والابداع صاحبه?! هل يقود الخجل والطيبة الانسان الى قدر لم يعتقد يوما انه ذاهب اليه..
قصة رحيل الزميلة الاعلامية رهام الفرا التي راحت ضحية تفجير مقر بعثة الامم المتحدة في بغداد يمكن ان يندرج تحت هذا الاطار.
فالفرا التي غادرت عمان قبل نحو عامين لاستكمال دراستها العليا في احدى الجامعات البريطانية لم تكن تفكر يوما بالعمل في العراق .. وكانت حتى تستبعد العودة الى عمان او منطقة الشرق الاوسط للعمل.
كان طموحها يقودها الى مواقع كثيرة .. الى اكمال دراستها اكثر واكثر .. ولكن كان للقدر كلمته.
بعد ان حصلت على شهادة الماجستير في لندن كان امامها عرضان للعمل احدهما في محطة بي بي سي والاخر للعمل في هيئة الامم المتحدة في القسم الاعلامي ومسؤولة عن مركز انباء الامم المتحدة واختارت العرض الاخير خاصة وان شقيقتها تسكن في نيويورك.
وتسلمت عملها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2002 في هيئة الامم المتحدة ولم تمض اشهر حتى اندلعت الحرب في العراق كانت خلالها تنشط في عملها وتخطف اعجاب زملائها في مقر الامم المتحدة ومسؤولها كما تقول شقيقتها رولا الفرا.
لم يكن مقررا ان تكون رهام جزءا من بعثة الامم المتحدة في العراق وانكبت على انشاء موقع الكتروني اعلامي للامم المتحدة تحت عنوان مركز انباء الامم المتحدة بدأ يقدم وجبة اعلامية مميزة عن نشاطات المنظمة..
ولكن الخطط تغيرت فجأة حين قرر زميلها في القسم الاعلامي عبدالحميد عبدالجابر المنتدب في بغداد للعمل كمتحدث رسمي باسم الممثل الخاص للامين العام للمنظمة اخذ اجازة لمدة شهر وكان لابد من بديل مؤقت يتولى مهمته.
ورغم ان العرف لم يجر ان يرسل موظف لم يكمل عامه الاول في مثل هذه المهمات الا ان الاختيار وقع على رهام بسبب تميزها ولكونها اعلامية عربية وقد يكون برأي مسؤوليها الاكثر قدرة على القيام بمهمة المتحدث الرسمي للبعثة وممثل الامين العام.
وكانت الترتيبات ان تصل الفرا نهار يوم السبت لتقضي نحو (3) او (4) ايام في عمان بين اهلها قبل ان تنطلق باتجاه العراق لتسلم مهامها.
واول المفارقات الغريبة بدأت حين ادى انقطاع الكهرباء الذي اصاب مدينة نيويورك وتسبب في توقف رحلات الطيران الى تأخر رحلتها عدة ساعات وكان من الممكن ان تلغى رحلتها بالكامل لكنها وصلت مساء السبت.
وقبل ان تكمل يومها في عمان كانت تتلقى اتصالا من زميلها في بغداد عبدالجابر الذي ستحل محله يتمنى عليها ان تبكر في قدومها لتسلم العمل وليتمكن هو من المغادرة في اجازته.
ورغم انها كانت لم تزل تريد البقاء في عمان لقضاء الوقت مع عائلتها ورؤية اصدقائها الا ان خجلها وطبيعتها منعاها من رفض طلب زميلها فوافقت وابلغته انها ستحضر في اليوم التالي.
وبالفعل اجرت ترتيبات الحجز على طائرة المنظمة الدولية التي تقلع يوم الاثنين صباحا ورغم صعوبة ايجاد مقاعد على هذه الطائرة الصغيرة الا ان اصرارها على تنفيذ ما وعدت به دفع المنظمة لحجز مقعد لها.
ليلة الاحد على الاثنين سهرت حتى الصباح مع شقيقتها واستيقظت فزعة في الـ (8) صباحا لانها كانت قد تأخرت على الطائرة.
خرجت بصحبة الدكتور رياض الحروب زوج شقيقتها للحاق بالطائرة ونجح بالوصول بها خلال اقل من ربع ساعة .. ولو تأخرت دقائق اخرى كما قال لها موظف في المطار لما ركبت في الطائرة.
كانت اخر توصيات سمعتها من فم الدكتور الحروب الذي يعتبرها ابنة له … ان تنتبه لنفسها وان لا تخرج الى الشوارع ليلا او تمشي وحدها .. فالامن غير مستتب في العراق.
لم يكن يعلم ان الخطر والموت سيقتحم ما كان يعتبره اكثر الاماكن امنا هناك.”
لم تنتظر الراحة .. وصلت نهار الاثنين .. وباشرت منذ صباح اليوم التالي عملها .. توجهت لمقر البعثة .. وتسلمت مهمتها من زميلها عبدالجابر الذي غادر في نفس اليوم ناجيا من موت محقق.
المفارقات كانت بالمرصاد لها .. فمكتبها يقع في مكان بعيد عن موقع الهجوم الذي تعرض له المقر .. وتقع في الجناح الخلفي الا ان حماسها للعمل جعلها تكون في المكان الذي استهدفه الانفجار.
فوفق ما رواه زملاؤها من بغداد علمت ان ممثل الامين العام بصدد الاعداد لبيان حول مقتل الزميل مازن دعنا فبادرت للتبرع ان تتولى هي المهمة رافضة ان يقوم بها احد غيرها.
توجهت لمكتب عمل الامين العام في الجناح الامامي للمقر وما ان وصلت هناك حتى كانت شاحنة الموت تخترق جدران المقر ويقع الانفجار الذي اودى بحياة اكثر من (23) شخصا بينهم الزميلة الفرا.
رولا الفرا التي فجعت برحيل شقيقتها لم تجد كلمات تعبر فيها عن هول الصدمة التي اصيبت بها لحظة معرفتها بالنبأ.
وتقول للحدث.. لم تكن رهام كغيرها من الفتيات فمنذ طفولتها كانت اكبر من سنها .. وبدأت هوايتها في الكتابة منذ سن مبكرة .. ومنذ كانت في التاسعة من عمرها حين كتبت في القصة والشعر وفاجأت معلماتها بقدرتها على كتابة الشعر والقصة.
حبها للكتابة كما تقول رولا هو ما دفعها لاختيار الصحافة لدراستها الجامعية.. فرغم انها كانت متفوقة جدا في مرحلة الثانوية وكان يمكنها دخول اي قسم تريد الا انها اختارت الصحافة حبا بها .. ولذلك كانت متفوقة فيها ايضا .
وتضيف رولا: كانت رهام تقول دائما ارغب في ان اعمل في منظمة دولية حتى استطيع ان ارفع المعاناة عن الطفل والمرأة الفلسطينية ولم تكن تفكر بالزواج او انجاب الاطفال فقد استحوذ عملها على تفكيرها .. حتى انها كانت تعمل طيلة النهار اما ان تكتب او تقرأ او تجلس امام الكمبيوتر.
تقول رولا لقد امضيت سهرتي مع رهام يوم الاحد اي قبل ان تسافر بيوم واحد فسألتني عن مستقبلي وشجعتني على ان اكمل رسالة الدكتوارة وقالت لي لا تستسلمي للاولاد لان عندك طموحا وقدرات هائلة.
اكثر ما يثير مشاعر رولا حين تذكر كيف كانت شقيقتها تفكر بالموت منذ اكثر من شهر كانت تتحدث مع زملائها عن الموت والاخرة والحساب ولم ترتح رهام الا عندما عرفت انها ستسافر الى بغداد وكانت في منتهى السعادة وقالت لزملائها وللجميع اترحموا علي لاني ربما اموت هناك!).
رولا تقول لقد سألت رئيسها الذي رآها قبل الحادث بلحظات كيف كانت رهام فاجاب لقد كانت رائعة.
وتحدث عن اليوم الذي قضته في عمان قائلة: اضمت يوما واحدا هو الاحد امضته بالاستعداد للسفر الى العراق وتتذكر انه عندما ذهبت الى السوبر ماركت لشراء بعض الحاجيات التي ستأخذها معها الى العراق لم تشتر سوى علبة حليب واحدة وماء وقالت هذه تكفي…(وتضيف: استغربت ذلك وقلت لها كيف ستبقين في العراق لمدة شهر هل ستكفيك هذه? فأجابت رهام: نعم.
وتستذكر رولا ان شقيقتها تناولت على الغداء في اليوم اليتيم الذي قضته في عمان وجبة الملوخية التي تحبها ثم خرجت بصحبتها لتناول فنجان من الكابتشينو الذي تحبه.
رولا اخبرتنا ان شقيقتها رهام سافرت بحقيبة واحدة والكمبيوتر المحمول وارتدت طقما رسميا ماتت فيه فهي لم تكن مهتمه بالمكياج او الترفيه ولم تكن تملك مجوهرات ولم تكن تفكر بالادخار الا بما يساعدها على تحقيق طموحها بتطوير قدراتها بالعمل والدراسة.
ومن شدة خوفي عليها لم اوقظها يوم الاثنين متعمدة لتستيقظ مسرعة وهي تردد: تأخرت لازم الحق بالطائرة.
اما وصول نبأ وفاتها فتسرده رولا قائلة علمنا من التلفزيون انه تم تفجير مبنى الامم المتحدة على قناة المنار اولا ثم على العربية فاتصلنا باحد زملائها الذي اخبرنا بانهم اصيبوا باصابات بسيطة وفي المستشفى فتطمنا عليها وبقينا نتصل على موبايلها دون ان تجيب وفي احدى المرات رد علينا طبيب عراقي قال لنا انه اسعف الجرحى والمصابين وقال اوصفوا لي رهام وعند الوصف قال الطبيب اعتقد انها مصابة بجروج في الوجه والكتفين واصاباتها بسيطة.. ولكنا اتصلنا مرة اخرى ليرد على الهاتف شخص اخر ووعدنا ان يبحث عنها.
وتكمل رولا بقينا على اعصابنا ونحن نتصل ونريد ان نطمئن لكن دون جدوى وفي حوالي 5ر7 صباحا يوم الخميس اخبرتني احدى صديقاتها المقربات ان رهام توفيت .. ونحن بانتظار اصدار شهادة وفاة واحضار الجثمان حتى يتم الدفن.
الى ذلك علمت الحدث ان الامم المتحدة نعت الزميلة الفرا على شبكتها الالكترونية وتحديدا على الموقع الذي عملت على تأسيسه واشارت في خبر بثته الى ان الفرا التي اسست هذا الموقع راحت ضحية الواجب الانساني في بغداد.