لو تأتّى للمرء، بالمؤقت العابر، ان يقيم حال الصحافة المكتوبة بمغرب الملك محمد السادس، لاحتار قطعا بين خطاب يدعي الانفتاح ويراهن علي الاصلاح، وبين سلوكات وممارسات مضمرة للنكوص والانتكاس، لدرجة يتراجع الخطاب معها، ويغدو وكأنه معطى موجه للاستهلاك الجماهيري العام ليس الا.
والواقع ان ما عاشته وتعيشه بعض من الصحف اليومية والاسبوعية وبعض المجلات، من متابعات قضائية، وملاحقات ادارية، وحصار بالاسواق كما بالمطابع، انما يدلل بالصريح المعلن، على سراب شعار الانفتاح المرفوع، ووهم الاصلاح المبشر به من حوالي عقد من الزمن.
لا يحتاج المرء الي عميق دراية بالميدان، ولا الى عناء كبير في التدقيق، لاستنطاق مدلولات الوقائع من بين ظهراني مجريات واقع الحال:
ـ فالخطوط الحمر السالبة للحريات، بالدستور كما بقوانين الصحافة، كما بالنصوص التشريعية العادية، انما اضحت ثابتا قارا، يخال للسلطة ان التنازل عن بعض بنودها، او غض الطرف عن البعض الآخر، هو بمثابة انقاص من صولتها، او تنقيص من رمزية صولجانها، او بالتحليل المتطرف، استسلام لحركية اعلامية لو تم التغاضي عن بعض تجاوزاتها الطارئة راهنا، فلربما تغدو قاعدة تصعب مداواتها، او حقا مكتسبا قد يتعذر الارتداد عليه بالقادم من ايام.
هي خطوط حمر لا يقتصر مداها على اعادة ترتيب ادوات ممارسة صحافية تتعارض بظلها حرية الاعلامي مع واجباته، بازاء الحقل مجال اشتغاله وبازاء المجتمع، بل تتعداه لدرجة الزجر، عبر الزج بالصحافي بمخافر الشرطة مقيد اليدين، او رميه بأتون السجون ضمن القتلة واللصوص وقطاع الطرق.
ـ وفضاء المقدس اتسع بنطاق غير مسبوق، اضحى معه الملك (وهو المقدس بمنطوق الدستور وصريحه) كما محيطه المدني والعسكري المباشر، كما المجالات الدينية والدنيوية الدائرة بفلكه، بمرتبة قد يفقد المرء، بمجرد الدنو منها، حريته في التعبير وحقه في التفكير، ناهيك عن مصدر رزقه، ولربما جزءا من مواطنته كما الحال مع الصحافي علي المرابط، الذي قضت المحاكم بمنعه من الممارسة لعشر سنوات، كونه تعرض بمنبره لبعض من المقدس.
قد لا يبدي المرء كبير اعتراض على منطوق بالنص واضح، حتى وان بات بالزمن الحاضر مثار تقزز وسخرية، لكنه لا يستطيع اخفاء تذمره من توسيع مجال ذات النص، وتمطيطه ليطاول فضاءات مضمرة، لم تؤشر النصوص التأسيسية الكبرى على قداستها، او علو مقامها، او استثنت فعلها وفاعليها من المراقبة والمحاسبة والعقاب.
ان مجال المقدس مجال مطلق، لا يحتاج لاجتهاد خاص بغرض الاثبات، الا ان توظيفه بالمجال الدنيوي العام، يضفي علي عناصره ضبابية، وظفتها الكنيسة من قرون عديدة مضت لاعتبارات سياسية خالصة، حتى وان غلفتها بمسحة دينية بالمظهر.
وكذلك الحال بالمغرب، اذ استوظاف المقدس بمجال لرأس الدولة به الامر والنهي، الخاضع قطعا لاحتمالات الخطأ، يزيح عنه بعده المطلق، ويسقطه بتحصيل حاصل بزاوية النسبي الضيق، القابل للطعن.
كيف للمرء اذن، والحالة هاته، ان ينتقد فعلا دنيويا عرضة للخطأ، لو كان ذات الفعل محيلا صوب مقدس غير قابل للاخذ والرد، فما بالك بالمجادلة والاعتراض؟
ـ لا ينحصر مفعول المقدس بالنص او عند مستوى الشخص، بل يتعداه ليطاول مجالات محكومة باعتبارات الحركية الاجتماعية والثقافية، التي تعتمل داخل المجتمع، او ترافق تموجاته بالزمن كما بالمكان.
فالاخلاق، كما سلم القيم، كما منظومات الانتاج والاستهلاك المادي منها والرمزي، لا تحتكم الى نصوص، او تقبل الانصهار بتشريعات. هي تفاعلات معقدة، قد تعيد انتاج القائم من سلوكات، وقد تنتفض عليها باستنبات منظومات جديدة، تشرعن لها وان قسرا، قوة واقع الحال وصيروراته.
القصد هنا انما القول، بان المقدس بالمغرب (المنصوص عليه جهارة، كما المضمر فيما بين السطور، كما المجتهد في استخلاصه بالتأويل) انما اضحي سيفا حادا، تقطع به رؤوس من تجرأ، او تطاول، او اجتهد، او استسهل العواقب والتداعيات. وكذلك كان، اذ كثر هم الصحافيون الذين اشهر بوجههم ذات السيف، فزج بهم بغياهب السجون، او دفعوا دفعا للمنافي، او بدلوا من طبيعة لهجتهم تبديلا، او تحولوا عن المهنة بالجملة والتفصيل.
والقصد هنا ايضا هو القول، بان مقتل اكثر من صحافي، لم يتأت فقط من عدم ادراكه لمدى قدسية بعض المستويات والاشخاص والمؤسسات، بل وايضا من قصر نظره في فهم مضامين وتداعيات عناوين لا تقل قداسة عما سبق، من قبيل النظام العام، والامن الداخلي العام، و سلامة الدولة، و محاربة التطرف، وما سوى ذلك.
هي كلها عناوين عامة، صيغت عنوة لتكون هلامية وفضفاضة، حتي اذا ما عن للسلطة تفعيلها، منحتها المضامين التي تخدمها وتسوغ لها قراراتها…اعني التي تفسح لها في المجال لتصفية هذا المنبر، او تصفية الحساب مع القائم عليه، الثاوي خلفه.
ولما كان الامر كذلك، فان الجهاز التنفيذي لا يجد غضاضة او عسرا، في اعمال الاجتهاد في مصادرة هذا المنبر او ذاك، في منع هذه الجريدة او المجلة او تلك، في مقاضاة هذا الصحافي او ذاك بمسوغ مجهر به، او بايحاء للمحكمة في ابداع المسوغ، عبر لي عنق النص ليا ليا.
قد يتفهم المرء حسابات السلطة، هي التي تتحكم في الاداة الخشنة للعقاب والتاديب، وقد يتفهم حسابات بعض مكوناتها، سيما لو كانوا من لوبيات المصالح المنفضح امرها بردهات الجرائد والصحف، لكن الذي لا نستطيع تفهمه او استساغته انما اقحام القضاء في ذلك، كما لو ان شرعنة الجريمة كاف لتبريرها، او الدعوة اليها.
واذا كان من الحق القول بان القضاء هو محك المتظلمين، كل حسب حججه وثبوتياته، فانه من الباطل الادعاء بذلك، عندما يكون ذات القضاء (بالمغرب تحديدا) مستلبا، غير مستقل، عرضة في بعض مفاصله للفساد، غير مؤتمن، ورهينا لما يؤتمر به، او يستصدر له من احكام:
ـ ان قضاء تحركه نيابة عامة، يثوي خلفها وزير عدل اتهم الصحافة باشاعة اليأس بين المواطنين (وخلق لذلك لجنة مختصة لمطاردتهم)، هو قضاء غير مؤتمن، بل هو فئوي التوجه، مسيس الطبع والطابع، يحكم بالنزوة، ولا يتواني في التجاوز دونما حياء او خشية…الم يحكم ذات القضاء على صحافي بدعوى ان المس بحجر من قصر الملك (بالكلمة لا بالهدم اقصد)، هو مس بكبائر المقدسات؟
ـ وان قضاء يحكم بغرامات باهظة (حتى وان استبعد السجن المباشر) انما هو قضاء ينقصه الانصاف، لان حكما من ذات الطينة هو حكم بالاعدام على منبر، قد يكون سجن صاحبه اهون من ذات الاعدام.
ـ ثم ان قضاء يصدر احكاما صادرة عن المستوى السياسي، هو الى الجهاز الاداري اقرب منه لجهاز العدالة والعدل…ألم يصدر الحكم بتسريح مدير اسبوعية الوطن الآن ، والابقاء على زميله بالمعتقل بالقناة التلفزية الاولى (وعبر قصاصة لوكالة الانباء الرسمية) قبلما ينطق قاضي التحقيق بذات الحكم؟
موهم بالقطع اذن، بناء على ما سبق وعلى ما سبق فقط، من كان او لا يزال يعتقد، او يزعم ان القضاء (ازاء الصحافة المكتوبة، كما ازاء القضايا العادية المارة من امامه) هو قضاء مستقل، او ان قضاته نزهاء، او انهم مترفعون عن المغريات. العكس هو القائم: لا استقلال للقضاء بالمغرب بازاء قضايا الصحافة، كما بازاء ما سواها من قضايا.
وعلى هذا الاساس، فان محنة الصحافة المكتوبة بالمغرب، لا تأتي حصرا من مقدس هلامي المجال، مضبب الاطار، ولا من جهاز تنفيذي (ولوبيات مصالح) محكوم النزعة، موجه القرار، بل وايضا من قضاء مستلب، منفذ للاوامر، معمل للتأويل الفضفاض، يستفهم الحكم من خارج مجاله، ولا يجد غضاضة في الحكم بما اوصي به دونما تمنع او ممانعة.
ان المطلوب حتما، والمطالب به قطعا بالمدى المنظور، ليس فقط تحديد مجال المقدس (وحصره في المطلق، الغير قابل للتاويل) ولا نأي الجهاز التنفيذي عن جهاز هو باكثر من مقياس سلطة رابعة وباكثر من بلد، بل وايضا النأي بالقضاء عن تجاذبات قوة بين جهازين، تنعدم من بين ظهرانيهما، اسس قواعد اللعبة المتعارف عليها باكثر من فضاء.
والاسس الملمح اليها هنا لا ترتبط فقط بضرورة سن قانون يحدد العلاقة بين الاطراف المتجاذبة (وضمنه قانونا في النفاذ للمعلومات والارشيفات)، بل وايضا استنبات ثقافة لا تعتبر الصحافي غريما يجب استئصاله، بل شريكا حيا في عملية البناء… اذا كان ثمة نية في البناء حقا…