لم نكن نعرف أن "نادي كارهي حرية الصحافة والرأي والتعبير" على هذه الدرجة من الاتساع والنفوذ ، وأن قوائم عضويته تضم عددا كبيرا ، إن لم يكن العدد الأكبر ، من الصحفيين والإعلاميين الذين انخرطوا بحماس ونشاط في حملة "ردح" غير مسبوقة ضد صحفهم و"مواقعهم" ومؤسساتهم الإعلامية. فقد كنا نعتقد أن عضوية هذا النادي تقتصر على عدد قليل من النواب والأعيان وبعض رجالات الدولة السابقين والحاليين ورموز البيروقراطية التقليدية وفرسان الحقبة العرفية ، لكن تبين من خلال الحملة "المكارثية" التي شنت وتشن على الصحافة والإعلام الأردنيين مؤخرا ، أن هذا النادي يضم في عضويته أيضا ، أقلاما وألسنة مغلفة "مثل الملبس ع لوز" بقشرة ليبرالية ويسارية وإسلامية وتقدمية.
ظن هؤلاء ، أن جلالة الملك إذ يوجه بعض الملاحظات الانتقادية لضعف "المهنية" وتردي "المسؤولية" عند بعض وسائلنا الإعلامية ، إنما يريدها حربا شعواء على الصحافة برمتها ، لا تبقي ولا تذر ، فاستل الجميع سيوفهم من أغمادها ، ودبت الروح في أفكار متخلفة من نوع "التوجيه" و"المركزية" و"الإعلام ـ السلاح" و"كتائب الإعلام ، و"مؤتمرات الإعلام" إلى غير ما هنالك من مفاهيم وأطروحات تنتمي لغابر الأزمان وتليق بالنظم الشمولية وحدها دون سواها.
والمؤسف أن كتابا وصحفيين ومثقفين ، انخرطوا في المعمعة بهمة ونشاط غير معهودين ، مع أن مواقعهم تملي عليهم الالتزام بالدفاع عن الحرية والديمقراطية والتعددية والنضال لرفع سقف حرية الرأي والتعبير لا الهبوط بها ، بعضهم فعلها عن "انتهازية« لا تخطئها العين ، أما بعضهم الآخر فقد تساوق مع نظرية: "وهل أنا إلا من غزية أن غوت .. غويت وإن ترشد غزية أرشد".
وفقا لكل ما نعرف ، ولكل ما قرأنا من تقارير ودراسات ، محلية ودولية عن صحافتنا وإعلامنا ، فإن الصحافة في بلادنا "منضبطة" أكثر من اللازم ، وإلى الحد الذي استحق معه إعلامنا وصفه "بالإعلام المرعوب" ، 94 بالمائة من كتابنا وصحفيينا يمارسون رقابة ذاتية ، في بلد يعاني أكثر من 80 بالمائة من مواطنيه من "ثقافة الخوف" ، وقد تحدثت تقارير "المجلس الأعلى للإعلام" عن صحافة "حرة نسبية" تراوح حول المنزلة الـ (5) على تدرج (من 1 إلى )10 ، وبصورة تنسجم مع نتائج استطلاعات أخرى تضع ديمقراطينا في منزلة وسط على المقياس ذاته ، وهي ذاتها النتائج التي أكدتها مقاييس حرية الإعلام ودراسات دولية حول مستوى الديمقراطية في العالم.
فجأة نكتشف ، أننا كنا مخطئين ، وأن صحافتنا "منفلشة" وإعلامنا غير مسؤول ، وأننا بحاجة لمؤتمرات ناظمة ووزارات مركزية وكتائب إعلامية ، علما بأن صحفنا اليومية السبع ، إما حكومية أو شبه حكومية ، وإعلامنا الرسمي من مرئي ومسموع تفيض "حكوميته" عن الحاجة ، ومواقعنا الالكترونية الرئيسة يشرف عليها صحفيون تراوح رتبهم وألقابهم ما بين "الباشا والأمباشي" ، فأين هو الفلتان الإعلامي ، وهل يتعدى الأمر بعض الأسماء الوهمية على بعض المواقع الضعيفة أو الصحف الصفراء التي لا يقرأها سوى كتابها وممولوها من الساسة المتخفين خلف هذه الواجهات الوهمية ، هل يمكن أن تؤخذ الصحافة والإعلام بجريرة هؤلاء ، وهل يستحق الأمر كل هذا التوتير والحقن والاحتقان؟،.
لقد ذهبت الصحف ومعها بعض النخب السياسية بعيدا في تحميل مقابلة الملك مع "بترا" ما لم تحتمل ، وفي ظني أن دخول الملك للتعليق على موقع الدستور جاء ليبدد هذه المناخات الكئيبة بإصراره على حماية حرية الرأي والتعددية واحترام الرأي الآخر ، والمأمول فعلا أن لا تبنى على هذه اللحظة المشحونة سياسات وهياكل جديدة ، وأن لا تتخذ في هذا الجو المشحون والمحقون قرارات كبرى تتعلق بمستقبل الإعلام الأردني ومصير السلطة الرابعة ، فالأردن صورة وسمعة ومصلحة ، هو المتضرر الأول والأخير من الهبوط بسقف الحرية وتقييد الصحافة وتكبيل الإعلام.