علي دراغمة/فلسطين-
لم تكن الصحافية سيراء سرحان وزميلها المصور هادي الدبس يعلمان أنهما سيتحولان إلى ضحايا عندما غادرا مكتبهما منذ شهر، في يوم الجمعة 25 تشرين الثاني من العام الماضي، لتغطية المواجهات مع جنود الاحتلال في بلدة نعلين غرب مدينة رام الله، وسط الضفة الغربية.
عند مدخل البلدة، أوقفهما جنود الاحتلال وطلبوا منهما البطاقات الصحافية والشخصية. استجوبوهما لفترةٍ قصيرة، ثم طلبوا منهما أن يطفئا محرك السيارة ويسلّمان مفاتيحها. عندما حاولا الاستفسار من الجنود عن السبب، قالوا لهما: اطلبوا من الشباب أن يوقفوا رمي الحجارة تجاهنا.
تقول سرحان إنهما صحافيان جاءا لتغطية الحدث لا للعمل كوسيطيْن، وتضيف: “كنا في قلب المواجهات، والشبان مستمرون بإلقاء الحجارة، والجنود يطلقون الأعيرة النارية والقنابل الغازية، ويحتمون في سيارتنا”. وتتابع: “استمرت عملية الاحتجاز لثلاث ساعات، أصبنا خلالها بالحجارة الملقاة على الجنود، وتعرضنا للاختناق جراء إطلاق القنابل الغازية تجاهنا أيضاً”.
وتشير إلى أنه “بعد تدخلات الارتباط العسكري الفلسطيني والصليب الأحمر الدولي، أطلق جنود الاحتلال سراحنا، وتمكنا من مغادرة المكان، بعد ثلاث ساعات من الاحتجاز كرهائن لدى الجنود”.
هذا الاعتداء هو واحدٌ من عشرات الانتهاكات والاعتداءات التي يتعرض لها الصحافيون /ات الفلسطينيون /ات بشكلٍ متزايد منذ اندلاع الهبّة الشعبية التي انطلقت في الأول من أكتوبر / تشرين الأول 2015، ردّاً على الاعتداءات المنظّمة التي ينفذها جنود الاحتلال والمستوطنون بحق المواطنين الفلسطينيين ومقدساتهم وممتلكاتهم، وقد ارتقى خلالها أكثر من 114 شهيداً، وأصيب 13500 فلسطيني، بينهم 4800 بالرصاص الحيّ، حتى مطلع كانون الأول الماضي.
تدمير محطات إذاعية
في سياق الاعتداءات الإسرائيلية على الصحافي، تم اقتحام محطات إذاعية ومؤسسات إعلامية فلسطينية، كانت أولها إذاعة “منبر الحرية” في مدينة الخليل، جنوب الضفة الغربية. إذ اقتحم العشرات من جنود الاحتلال مقرّ الإذاعة في الثالث من شهر نوفمبر /تشرين الثاني الماضي، وقاموا بتدمير وتخريب محتوياتها ومصادرة أجهزة الحاسوب والبث، من دون سابق إنذار.
يقول مدير عام الإذاعة أيمن القواسمي إن “خسائر الإذاعة بفعل الاعتداء الإسرائيلي بلغت 350 ألف دولار”. يكمل: “لقد دمروا كل شيء، وصادروا ما تبقى من الأجهزة، من دون أي تحذير”. يشرح: “تذرعت سلطات الاحتلال عند الاقتحام بأننا نقوم ببث أغانٍ تحريضية، وتمجيد الشهداء وعائلاتهم، إلا أن تلك ذريعة إسرائيلية، فالأغاني التي يصفونها تحريضية منتشرة بكثرة على مواقع التواصل الاجتماعي وفي كل مكان في فلسطين”. في المقابل، هو يرى أن “ما يقوم بإثارة مشاعر الفلسطينيين وتأجيج الصراع هي مقاطع الفيديو التي ينشرها الإسرائيليون لعمليات الإعدام الميداني للمواطنين الفلسطينيين”.
ويعطي مثلاً إعدام الشهيدة هديل الهشلمون ونشر وسائل الإعلام الإسرائيلية صورها بشكل غير لائق بعد عملية الإعدام، إذ ساهم ذلك بإثارة مشاعر الفلسطينيين. إلى فيديو الهشلمون، نشروا أيضاً مشاهد للطفل أحمد مناصرة، وهو ينزف على الأرض بعد إصابته برصاص شرطة الاحتلال في القدس، والمستوطنون من حوله يصرخون ويطالبون بإطلاق رصاصة على رأسه، ويشتمونه بألفاظٍ نابية.
ويبيّن القواسمي أن الاحتلال الإسرائيلي يهدف من وراء هذه الاعتداءات بحق الصحافة والإعلام الفلسطينييْن، إلى كتم الرواية الفلسطينية، والإبقاء على الرواية الإسرائيلية وحدها، في ظل استمرار إذاعات المستوطنين في الضفة الغربية بالتحريض اليومي على قتل الفلسطينيين.
في تفنيد ادّعاءات الاحتلال، يبيّن القواسمي أن موقع إذاعته نشر صوراً للجريح محمد فهمي الشلالدة في أثناء تلقيه العلاج في أحد المستشفيات الإسرائيلية، بعدما كانت سلطات الاحتلال قد أبلغت ذويه كذباً بأنه قد استشهد وأنهم سوف يبقون على جثمانه محتجزاً. ويقول إن أحد مصادر الإذاعة قام بتسريب صورة الجريح شلالدة وهو على سرير المستشفى، “وقمنا بنشرها بعد يوم من فتح ذويه بيت عزاءٍ له، ما ساهم بكشف زيف ادّعاء الاحتلال”.
كما أن إذاعته نشرت مقطع فيديو آخر تفنّد فيه رواية جيش الاحتلال حول محاولة الشهيد فضل القواسمي طعن أحد المستوطنين في البلدة القديمة في الخليل، فقد أطلق أحد المستوطنين النار على الشاب فضل، ما أدّى إلى استشهاده. وتم نشر مقطع فيديو لاحقاً يظهر أحد الجنود وهو يرمي سكيناً بجانب جثة الشهيد التي تغرق بالدماء على الأرض، ليزعم أنه حاول القيام بعملية طعن.
150 اعتداءً وانتهاكاً
رصدت مراكز ومؤسسات إعلامية فلسطينية أكثر من 170 اعتداءً وانتهاكاً نفذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحقّ الصحافيين والمؤسسات الإعلامية الفلسطينية، حيث وثّق “التجمّع الإعلامي الشبابي الفلسطيني” 40 انتهاكاً واعتداءً خلال نوفمبر /تشرين الثاني 2015 وحده.
وشهد شهر أكتوبر /تشرين الأول (الشهر الأول من الهبّة الجماهيرية)، قفزة ضخمة في عدد وجسامة وخطورة الجرائم والاعتداءات التي استهدفت الصحافيين والحريات الإعلامية في الضفة وقطاع غزة. إذ رصد “المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية – مدى” ووثق ما مجموعه 112 اعتداءً وانتهاكاً ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي.
وقال الصحافي والباحث في مركز “مدى” غازي بني عودة إن ما لا يقل عن 40 اعتداءً من مجمل الاعتداءات التي وثقها المركز، تندرج ضمن الانتهاكات بالغة الجسامة، حيث تسببت معظمها بإصابات جسدية خطيرة للصحافيين /ات وعرضتهم /ن لمخاطر حقيقية.
ويوضح بني عودة أن هذه الاعتداءات تنوعت ما بين استهداف الصحافيين /ات بالرصاص الحي (6 أصيبوا بالرصاص الناريّ أو الحيّ)، والإصابة بالأعيرة المطاطية والمعدنية التي أطلقت بصورة مباشرة ومن مسافاتٍ قريبة وعلى أماكن حسّاسة من أجساد الصحافيين (إصابة 16 صحافيا/ة بالرصاص المطاطي والمعدني)، علماً أن العديد منهم أصيبوا في الرأس أو البطن. واستُخدم عدد من الصحافيين /ات كدروع بشرية (استخدم الجنود 4 صحافيين وصحافيات كدروع بشرية في حادثتين منفصلتين)، فضلاً عن رش وجوههم /ن وعيونهم /ن برذاذ الفلفل الحارق، وإصابة 8 صحافيين /ات بشكل مباشر بقنابل الصوت والغاز التي أطلقها الجنود عليهم (أصابت القنابل الوجوه والرؤوس). ما تسبب بإصابات بالغة كما كانت حال مراسلة فضائية “الميادين” الصحافية هناء محاميد، إذ أطلق الجنود قنبلة صوت أصابتها بحروق شديدة في وجهها، في أثناء تغطيتها أحداثاً في مدينة القدس.
وتركزت الاعتداءات والجرائم الاسرائيلية الـ 112 التي تم رصدها وتوثيقها في مناطق الضفّة الغربية، حيث سجّل ما مجموعه 92 اعتداءً في الضفة و20 اعتداءً في قطاع غزة.
ويشير بني عودة إلى أن شهر 11 من العام الماضي شهد إغلاق وتدمير ثلاث إذاعات محلية في مدينة الخليل ومصادرة أجهزة البث الخاصة بها، بذريعة أنها تحرض على المقاومة ضد إسرائيل.
ويوضح بني عودة أن سلطات الاحتلال تقيس مدى التحريض وفق معاييرها ومزاجها، “فهي قد تعتبر نشر صورة شهيد أو أغنية وطنية معينة تحريضاً، بينما هي لا تعتبر كذلك بالنسبة إلى المواطن الفلسطيني العادي، وقد تكون منتشرة على شبكة الإنترنت بشكل واسع”.
محاولة مع “غوغل”!
تؤكد مديرة المكتب الصحافي في وزارة الإعلام الفلسطينية نداء يونس أن جيش الاحتلال ينتهج حلقة من سلسلة من الاعتداءات والانتهاكات التي بدأها منذ بداية الهبّة الجماهيرية بحق الصحافيين، حيث شرع باستهداف الصحافيين بوتيرة متصاعدة وبشكل غير مسبوق، وباستخدام أنواع جديدة من الذخيرة، مثل رشّ غاز الفلفل في وجوه الصحافيين، وإطلاق نوع جديد من الرصاص المعدنيّ أشد خطورةً من الرصاص المغلف بالمطاط، بالإضافة إلى الاعتقال والاعتداء الجسدي والاحتجاز لساعات.
وفي إطار منع تغطية الانتهاكات في الضفة الغربية، “بدأت سلطات الاحتلال بفرض بطاقات خاصة على الفلسطينيين الذين يسكنون في الأحياء والحارات التي يحتلها المستوطنون، مثل حارة أبو سنينة في مدينة الخليل، بهدف منع دخول الصحافيين إلى تلك الحارات والأحياء لتوثيق وتصوير الانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية وتظهير التمييز العنصري بحق الفلسطينيين”، وفق يونس.
وبحسب يونس، فإن الحلقة الأخطر في تلك الاعتداءات والإجراءات، هي اجتماع مسؤولين إسرائيليين بممثلين عن شركة “غوغل” المالكة لموقع “يوتيوب”، ومحاولة إبرام اتفاق مع الشركة لمنع رفع ونشر مقاطع فيديو يصورها فلسطينيون، تظهر الانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية.
وتشير إلى أن إسرائيل فشلت فشلاً ذريعاً في منع انتشار الرسالة والصوت الفلسطيني، بسبب انتشار الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، التي مكنت المواطنين من تصوير الاعتداءات في ظل حظر وصول الصحافيين الفلسطينيين إلى مناطق تخضع لإجراءات أمنية من قبل جيش الاحتلال: “فمثلاً، تمكّن أحد المواطنين من تصوير جندي إسرائيلي أثناء وضعه السكين بالقرب من الفتاة مرام حسونة، وهي ملقاة على الأرض على حاجز عناب شرق مدينة طولكرم شمال الضفة الغربية، عقب إصابتها برصاص الجنود، بينما مُنع الصحافيون من الوصول إلى تلك المنطقة”، وفق ما أضافت يونس.
لجنة وملف قانوني
بحسب نقيب الصحافيين الفلسطينيين عبد الناصر النجار، شكّلت النقابة لجنةً وبدأت بإعداد ملف قانونيّ، بالتعاون مع وزارتي الإعلام والخارجية، ودائرة شؤون المفاوضات في “منظمة التحرير الفلسطينية”، ومؤسسات حقوقية فلسطينية، بهدف التوجه إلى محاكم دولية، منها متواجدة في دولٍ أوروبية، وإيداع ملف خاص بالانتهاكات الإسرائيلية لدى المحكمة الجنائية الدولية.
ويوضح النجار أن تغطية الصحافة الفلسطينية لاعتداءات الاحتلال اليومية بحق الفلسطينيين، “دفعت بجنود الاحتلال إلى تغطية وجوههم بأقنعة، ما يؤكد أن الإعلام الفلسطيني أدى دوراً مهماً في فضح الانتهاكات”.
وللمرة الأولى منذ تأسيس السلطة الفلسطينية قبل نحو 20 عاماً، تم إغلاق محطات إعلامية فلسطينية بقرار من الحاكم العسكري الإسرائيلي في الضفة الغربية، بحسب النقيب: “إذ تم إغلاق إذاعة “منبر الحرية” في وسط الخليل، وهي منطقة مسماة (أ) تخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية حسب تقسيمات اتفاق أوسلو، أي أن الإسرائيليين لم يعودوا يعترفون بالاتفاقيات التي وقعوها مع الجانب الفلسطيني”، وفق ما قال النجار.