CPJ- أصبحت حرية الصحافة في تونس، والتي تحققت بعد عناء طويل، مهددة في أعقاب الاعتداءات الإرهابية الفتاكة. ويجد الصحفيون أنفسهم عالقين بين المتطرفين العنيفين وبين أجهزة الأمن التي يضيق صدرها بالنقد. ففي الوقت الذي هددت فيه الميليشيات الإسلامية وسائل الإعلام، أصدرت الحكومة تشريعات مشددة فيما تقوم قوات الأمن بمضايقات قانونية، وحتى اعتداءات، ضد الصحفيين. وفي وسط هذا المناخ الذي ازداد سوءاً بسبب وجود تعارض في القوانين، لجأت بعض وسائل الإعلام إلى ممارسة الرقابة الذاتية. تقرير خاص للجنة حماية الصحفيين من إعداد صفاء بن سعيد
صدر في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2015
تونس
لقد ألهمت تونس الانتفاضات التي اجتاحت العالم العربي في عام 2011. وهي تحمل اليوم وعد تحقيق ديمقراطية مستقرة، في الوقت الذي تراجعت فيه عدة دول مجاورة إلى وضع من القمع الوحشي أو أصحبت غارقة في نزاعات مسلحة. وقد تغلب هذا البلد على تحديات خطيرة من خلال التوصل إلى تسوية سياسية بين الأحزاب العلمانية والدينية، مما مهد السبيل إلى إقرار دستور تقدمي في عام 2014 وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة. وقد كافح المجتمع المدني التونسي بحرص من أجل المحافظة على مكتسبات الثورة في مجال الحريات المدنية والسياسية وحقوق الإنسان، بما في ذلك حرية الصحافة.
بيد أن الإنجازات التي تحققت بعد عناء طويل في مجال حرية الصحافة بدأت تتراجع وتتعرض لمزيد من التهديد منذ الاعتدائين الإرهابيين الكبيرين اللذين وقعا هذا العام وأوديا بحياة 60 شخصاً وأديا إلى ازدياد المخاوف الأمنية. ومنذ هذين الاعتدائين، أعدت الحكومة – بقيادة حزب نداء تونس العلماني الذي فاز على حزب النهضة الديني في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في عام 2014 – تشريعات جديدة يمكن إساءة استخدامها لإسكات وسائل الإعلام. كما باتت الأجهزة الأمنية لا تتحمل النقد، مما أدى إلى مضايقات قانونية ضد الصحفيين الناقدين، وحتى اعتداءات بدنية وتهديدات ضد صحفيين يقومون بعملهم. كما يتعرض الصحفيون لتهديدات من المتطرفين الإسلاميين، مما يجعل الصحافة عالقة بين الإرهابيين وبين الجهات التي تسعى إلى مكافحة الإرهاب – وهذا مأزق شائع يواجهه الصحفيون حاليا في العالم، حسبما وجدت لجنة حماية الصحفيين.
وفي وسط هذا المناخ المشحون، تزداد القيود على قدرة الصحفيين التونسيين في القيام بعملهم، من جراء التعارض في القوانين، وإحجام بعض مالكي وسائل الإعلام والمحررين عن نشر تحقيقات صحفية ناقدة أو مقالات شديدة اللهجة.
وقال زياد الهاني، وهو صحفي ورئيس المنظمة التونسية لحماية الصحفيين، “قبل يناير/كانون الثاني 2011، كان العدو الأول للإعلام هو الحكم الاستبدادي. أما اليوم، يواجه الإعلام تهديدات من قوى من شتى الأنواع: سياسية واجتماعية ومالية وثقافية وقضائية”.
في عام 2011، وبعد انهيار النظام الدكتاتوري لزين العابدين بن علي والذي امتد 24 عاماً، أقرت الحكومة الانتقالية التونسية المرسوم رقم 115، المؤلف من 80 مادة لتنظيم حرية المعلومات والتعبير. وفي حين لم تحظَ فكرة سن قانون لتنظيم الصحافة بترحيب شامل من الجماعات الدولية المعنية بحرية الإعلام – فمعظم الديمقراطيات ليس فيها قانون للصحافة – اعتبر معظم الصحفيين ومناصرو حرية الصحافة التونسيون المرسومَ بأنه يمثل تحسناً في النظام القانوني للبلد.
بيد أن الصحفيين يقولون إن الحكومة أخذت تلجأ حالياً إلى قانون العقوبات الأكثر تشدداً بدلا من تطبيق قانون الصحافة، ويتيح قانون العقوبات سجن الأفراد بسبب جرائم تتعلق بالنشر، بما في ذلك التشهير أو القذف. في حين لا يسمح المرسوم 115 بعقوبة السجن بسبب هذه الجرائم، وإنما ينص على فرض غرامات كعقوبة.
وأفاد كمال العبيدي للجنة حماية الصحفيين، وهو صحفي مستقل ومناصر لحرية الصحافة وعمل سابقاً ممثلاً للجنة حماية الصحفيين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، “يتمثل أحد الشواغل الرئيسية للصحفيين ومناصري حرية التعبير التونسيين في النزعة المستمرة لدى السلطات باستخدام قانون العقوبات المتشدد لجر الصحفيين إلى المحاكم بسبب قيامهم بعملهم، بدلاً من استخدام المرسوم 115/2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر، الذي يتضمن أحكاما تحمي الصحفيين”.
ومن الأمثلة على هذه النزعة، قيام السلطات في ديسمبر/كانون الأول 2014 باعتقال المدون ياسين العياري بسبب عدة مواد نشرها على صفحته على موقع فيسبوك انتقد فيها وزير الدفاع التونسي السابق زاعماً أنه أضعف المؤسسات العسكرية وتقاعس عن التصرف إزاء معلومات استخبارية بشأن اعتداءات شنها متطرفون. وقد استخدمت السلطات قانون القضاء العسكري ووجهت للصحفي تهمة “التشهير” بالجيش وأدانته بهذه التهمة وصدر بحقه في يناير/كانون الثاني حكم بالسجن لمدة عام، ثم خففت محكمة الاستئناف الحكم إلى السجن لمدة ستة أشهر. وأفرج عنه لاحقاً بعد أن أمضى نصف المدة، وذلك في أعقاب حملة دولية للدفاع عنه.
وفي مثال آخر جرى قبل تشكيل الحكومة الحالية، اعتُقل في عام 2013 المصورمراد المحرزي الذي يعمل مع قناة ‘أسطرلاب‘ التي تبث عبر شبكة الإنترنت، وذلك لقيامه بتصوير المخرج نصر الدين السهيلي عندما ألقى بيضاً على وزير الثقافة التونسي، مهدي مبروك. ووجهت إليه السلطات تهمة “التآمر على ارتكاب العنف ضد مسؤول حكومي” بموجب قانون العقوبات، والتي يعاقب من يدان بارتكابها بالسجن لمدة خمس سنوات. وقد أفرجت عنه السلطات بعد بضعة أسابيع وأسقطتالاتهامات الموجهة إليه.
واستخدمت السلطات أيضاً اتهامات تتعلق بالإرهاب لمعاقبة الصحفيين على تغطيتهم الصحفية وللضغط عليهم من أجل الكشف عن مصادر معلوماتهم، حسبما وجدت أبحاث لجنة حماية الصحفيين. فقد استخدمت السلطات قانون مكافحة الإرهاب الصادر عام 2003 لتوجيه اتهامات ضد الصحفي نور الدين المباركي، محرر الصحيفة الرقمية ‘ آخر خبر أونلاين’ ، بالتواطؤ في الاعتداء على شاطئ سوسه الذي وقع في يونيو/حزيران وأودى بحياة 39 سائحاً، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يواجه فيها صحفي تونسي اتهامات تتعلق بالإرهاب منذ الثورة في عام 2011. وكان المباركي قد نشر صورة للسيارة التي يُزعم أنها نقلت المسلح الذي ارتكب هذا العمل الإرهابي. وقال المباركي للجنة حماية الصحفيين إنه حذف الصورة بناء على طلب وزارة الداخلية، إلا أنه استُدعي إلى ثكنة عسكرية حيث وُضع مع أشخاص يُشتبه بأنهم إرهابيون وتم تهديده بالاعتقال. وقد أفرج عنه في اليوم نفسه، إلا أنه ما يزال يواجه هذه الاتهامات، ولم تحدد السلطات موعداً لمحاكمته.
تزايدت المخاوف من إساءة استغلال القوانين بعد أن أقر البرلمان في أواخر يوليو/تموز قانونا واسع النطاق لمكافحة الإرهاب، وهو يتضمن تعريفات واسعة للجرائم الإرهابية ويسمح بفرض عقوبة الإعدام على من يدانون بارتكاب هذه الجرائم.ويسمح الدستور التونسي بعقوبة الإعدام، إلا أن السلطات لم تنفذ أي حكم إعدام منذ عام 1991. كما ينص قانون مكافحة الإرهاب على عقوبة السجن لفترة تصل إلى خمس سنوات ضد أي فرد يمتدح الأعمال الإرهابية أو يرتبط بها. ويخشى مناصرو حرية الصحافة بأن القانون سيُستخدم لإسكات جميع ناقدي الحكومة.
وقال محمد الذوادي للجنة حماية الصحفين، وهو رئيس مركز تونس لحرية الإعلام، “تواجه حرية الصحافة حالياً تهديدات مستمرة بسبب التشريع الجديد الذي طرحته الحكومة باسم حماية الأمن الوطني”. وقد تأسس هذا المركز بعد فترة وجيزة من ثورة عام 2011 للدفاع عن حرية الصحافة وحقوق الصحفيين.
وهناك إجراءان تشريعيان إضافيان مثيران للقلق قامت بهما الحكومة. الأول هو قيامها في 3 يوليو/تموز بسحب مسودة القانون الأساسي حول الحق في الحصول على المعلومات، والذي صاغته وطالبت به جماعات المجتمع المدني، وكان معروضاً على البرلمان لإقراره. وكانت الغاية من مشروع القانون هي تيسير الضمانات الدستورية “للحق في الحصول على المعلومات والحق في الوصول إلى المعلومات وشبكات التواصل”. ولم تقدم الحكومة مبرراً لإجرائها المفاجئ بسحب مشروع القانون.
أما الإجراء الثاني فهو مشروع القانون الذي قدمته الحكومة في 10 أبريل/نيسان تحت مسمى “زجر الاعتداء على القوات المسلحة” الذييجرّم “تحقير” الشرطة أو غيرها من الأجهزة الأمنية. وينص مشروع القانون على عقوبة السجن لمدة 10 سنوات وغرامة تبلغ حوالي 25,000 دولار أمريكي لكل من يدان بتهمة إفشاء “أسرار الأمن الوطني”.
وقال الصحفي زياد الهاني، “[سيكون] الصحفيون الاستقصائيون هم أول ضحايا هذا القانون”.
وقال ناجي البغوري للجنة حماية الصحفيين، وهو رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، إنه تلقى رسائل من الحكومة أكدت فيها بأنها ستسحب مشروع قانون زجر الاعتداء على القوات المسلحة. وأفاد مكتب رئيس الوزراء للجنة حماية الصحفيين في يوليو/تموز أن موضوع سحب مشروع القانون هو “قيد النقاش”، ورفض الإدلاء بأية تصريحات أخرى. ولم يُجب الناطق باسم المكتب لاستفسارات أخرى أرسلتها مؤخراً لجنة حماية الصحفيين.
وقال قيس سعيد، الأستاذ المساعد في القانون العام والعلوم السياسية في جامعة قرطاج في تونس، “لدينا نصوص قانونية كافية لمواجهة التهديدات الإرهابية. أما الحماية الحقيقية [من الإرهاب] فهي توفير نصوص قانونية تضمن الحرية ووجود قضاء مستقل بعيد عن الاعتبارات السياسية”.
وثمة إجراء تشريعي آخر قد يتسبب بإشكالات للصحفيين وهو مسودة قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية، والذي أعلن عنه في عام 2014. وفي أغسطس/آب، قال وزير تكنولوجيا الاتصال والاقتصاد الرقمي، نعمان الفهري، إن مشروع القانون سيكون جاهزاً لعرضه على البرلمان في نهاية عام 2015. وفي بدايات مايو/أيار، حذرتالنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين من نقص الحماية للخصوصية ومن السلطات الواسعة التي يمنحها مشروع القانون للسلطة التنفيذية. ويتضمن قانون العقوبات الحالي عقوبات جنائية في جرائم التشهير، ولكن مشروع قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية سيوسع نصوص هذه العقوبات كي تنطبق على المواد المنشورة في شبكة الإنترنت، حسبما تظهر أبحاث لجنة حماية الصحفيين.
وفي الواقع، يحتوي تشريع مكافحة الإرهاب حاليا على مواد تتعلق بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهي تهدد الحق في الخصوصية والحق في الوصول إلى المعلومات، وذلك من خلال توسيع مبررات فرض المراقبة، ووضع تعريفات غامضة للجرائم، ومنح حصانة للمحققين، حسبما أفاد به خبراء في تكنولوجيا الاتصالات.
وأفاد بشير واردة للجنة حماية الصحفيين، وهو خبير إعلامي والمنسق السابق للائتلاف المدني للدفاع عن حرية التعبير، “يتمثل التحدي الأكبر أمام الإعلام حالياً في وجود برلمان محافظ مع وجود ضعيف للمعارضة ولمناصري حقوق الإنسان”.
لجأت قوات الأمن التونسية في بعض الحالات إلى العنف البدني أو التهديد بالعنف بغية إعاقة عمل الصحفيين أو السعي لترهيبهم. وقد جرت معظم حالات الاعتداءات خلال التغطية الإعلامية للاحتجاجات المناهضة للحكومة، أو عند وقوع هجمات إرهابية، حسبما أفاد محمد الذوادي للجنة حماية الصحفيين.
وقال الذوادي، “مع تزايد التهديدات الأمنية، جرى التعامل مع الصحفيين على أنهم جزء من المشكلة. فقوات الأمن لا تفهم أن عمل الصحفيين هو تغطية الأحداث الجارية”.
تعرض ستة صحفيين من قناتي ‘الوطنية’ و ‘المتوسط’ التلفزيونيتين ومحطة ‘شمس’ الإذاعية لاعتداءات بدنية، بما في ذلك صحفي تلقى لكمة على وجهه، وذلك على يد قوات الأمن التي هددت هؤلاء الصحفيين بالأسلحة أيضاً في 18 فبراير، وفقاً لمركز تونس لحرية الإعلام. وقد وقعت هذه الاعتداءات بينما كان الصحفيون يغطون اعتداءًنفذه مسلحون ضد نقطة تفتيش في منطقة القصرين الواقعة في وسط البلاد، وأدى الاعتداء إلى مقتل أربعة عناصر من الشرطة.
تعرض عدد من الصحفيين لاعتداءات أيضاً على يد الشرطة بينما كانوا يغطون تظاهرة “وينو البترول” التي جرت في 6 يونيو/حزيران للمطالبة بالشفافية في الإجراءات الحكومية فيما يخص الموارد الطبيعية. ونشرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بيانا على صفحتها على موقع فيسبوك ذكرت فيه أسماء ستة صحفيينتعرضوا لاعتداءات على يد قوات الشرطة، وأعلنت أنها اتصلت بوزارة الداخلية للمطالبة بإجراء تحقيق مفتوح. وأجابت الوزارة على بيان النقابة، وقال الناطق باسم الوزارة، محمد علي العروي، إنه تم فتح تحقيق مشيراً إلى أن “بعض الصحفيين كانوا بين المتظاهرين، وهو أمر يتعارض مع التعليمات بشأن التغطية الإعلامية في مثل هذه الظروف”، وفقاً لتقارير إخبارية محلية.
وأوردت تقارير إخبارية محلية تفاصيل حول هذه الاعتداءات، والتي شملت تعرض المصور الصحفي ياسين القايدي من وكالة الأناضول للضرب بهرواة، كما صودرت كاميرات كانت بحوزة خمسة صحفيين آخرين، وهم: خليل الكلاعي مراسل قناة ‘المتوسط’؛ ولطيفة أنور مراسلة ‘راديو 6’؛ وسمية أولاد غربية مراسلة وكالة البث التونسية المملوكة للحكومة؛ وسيف الدين طرابلسي المصور في محطة ‘شمس’ الإذاعية الخاصة؛ والمصور حسام بوحلي من محطة ‘موزاييك’ الإذاعية الخاصة.
وقال صحفيون محليون إن أجهزة فرض القانون لم تجرِ تحقيقات ولم تحاسب عناصر قوات الأمن الذين ارتكبوا هذه الاعتداءات. وقد وثق مركز تونس لحرية الإعلام 277 حالة اعتداء ضد صحفيين في عام 2014، ولم تحدث ملاحقات قانونية بشأن أي منها، على الرغم من توفر إفادات شهود وتقارير طبية حول العديد منها.
وأفاد متحدث آخر باسم وزارة الداخلية، وليد اللوقيني، للجنة حماية الصحفيين أن الوزارة حققت في التقارير بشأن الاعتداءات التي ارتكبها عناصر الأمن ضد الصحفيين، وأنه تم اتخاذ “إجراءات عقابية”. إلا أنه امتنع عن تقديم أية تفاصيل إضافية. وأفاد رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، ناجي البغوري، للجنة حماية الصحفيين، أن السلطات لم تعلن عن العقوبة التي فرضت على مرتكبي الاعتداءات خشية من نشوء مشاكل مع نقابات العاملين في قوى الأمن
وأفاد اللوقيني للجنة حماية الصحفيين أن وزارة الداخلية بدأت مشروعا تدريبيا حول السلامة يشارك فيه صحفيون وعناصر من قوات الأمن، وذلك بالتعاون مع النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين. ويهدف المشروع إلى تدريب الصحفيين على إجراءات السلامة التي يجب اتخاذها أثناء الاحتجاجات، ولتدريب الشرطة على كيفية التعامل مع التظاهرات ومع الصحفيين بطريقة غير عنيفة. وجرت الجلسة الأولى للتدريب المشترك بين الصحفيين وعناصر الأمن في 5 يونيو/حزيران.
بيد أن التهديدات لسلامة الصحفيين لا تأتي من قوات الأمن فقط، بل من المتطرفين أيضاً. فقد تلقى الصحفي سفيان بن فرحات الذي يكتب حول الشؤون السياسية في الصحيفة اليومية ‘ لا بريس‘، تهديدات بالقتل من أفراد يعتقد بأنهم ينتمون لجماعات إسلامية متطرفة، فقد حضروا إلى بيته واتصلوا به هاتفياً، وأرسلوا إليه رسائل تهديد عبر شبكة الإنترنت. ويقول إن موقف قوات الأمن والقضاء من هذه التهديدات هو موقف متساهل، وأنه لم يتمكن من معرفة نتائج أية تحقيقات أو ملاحقات قضائية بعد أن أبلغ الشرطة بشأن هذه التهديدات.
وأفاد الناطق باسم وزارة الداخلية، وليد اللوقيني، للجنة حماية الصحفيين أن السلطات توفر الحماية لجميع الصحفيين الذين يواجهون تهديدات، بمن فيهم بن فرحات، ولكنه امتنع عن التعليق على أي مزاعم تشكك في التزام السلطات بحماية الصحفيين.
وفي 30 أغسطس/آب، قالت مجموعة ‘إفريقية للإعلام’ المرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية، عبر حسابها على موقع تويتر إن ثلاثة مؤسسات إخبارية تونسية تنشر أكاذيب وشائعات حول المجاهدين، وهددت باتخاذ إجراءات انتقامية ضدها. أما المؤسسات الإخبارية المستهدفة فهي الصحيفة الخاصة ‘آخر خبر‘، والموقع الإلكترني الإخباري ‘حقائق أونلاين‘، والمجلة الإلكترونية ‘بيزنيس نيوز‘. وأعربت الجمعية التونسية لمديري الصحف والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين عن دعمهما لهذه المؤسسات الإعلامية وطالبتا وزارة الداخلية بتوفير حماية لها من أية اعتداءات محتملة.
أوردت تقارير إخبارية إنه بعد مذبحة شارلي إبدو التي جرت في باريس، وجّه رجل يدعى كمال زروق، وهو مرتبط بجماعة ‘أنصار الشريعة’ المتطرفة والمحظورة، تهديدات للصحفييَن نوفل الورتاني ومعاذ بن غربية، وهما مذيعان تلفزيونيان، لأنهما أعربا عن تضامنهما مع موظفي مجلة شارلي إبدو الساخرة. ونُشر ملف صوتي حول التهديدات على شبكة الإنترنت.
وجد الصحفي والمصور معز السمراني في 16 يوليو/تموز تهديدات مكتوبة على جدران منزله في منطقة بوسالم في ولاية جندوبة الواقعة في الشمال الغربي من تونس. وعمل هذا الصحفي في السابق مع القناة التلفزيونية الخاصة ‘التونسية’. وأخبره جيرانه أن مجموعة من الرجال يحملون سيوفاً وسكاكين هم من كتبوا التهديدات. وقال الصحفي للجنة حماية الصحفيين إنه يتعرض لتهديدات مستمرة في بلدته وأنه يوصف بالملحد بسبب عمله في الإعلام. وقال السمراني للجنة حماية الصحفيين “لقد تلقيت تهديدا آخر بالقتل عبر البريد الإلكتروني في 28 يوليو/تموز. وقالت الرسالة إن رأسي بحاجة للقطع”. وقال إن السلطات اعتقلت أربعة من بين الرجال السبعة المشتبه بهم وأنهم ينتظرون محاكمتهم.
وفي الحالات التي ارتُكب فيها العنف ضد صحفيين تونسيين في خارج البلد، كان الدعم الحكومي غير كافٍ. ومن الأمثلة على ذلك مصير الصحفييَن التلفزيونيين التونسيين سفيان الشواربي ونذير القطاري، اللذين فُقدا في شرق ليبيا في سبتمبر/أيلول 2014. وأعلن مسؤولون ليبيون في 29 أبريل/نيسان أن تنظيم الدولة الإسلامية زعم بأنه أعدم الصحفيين، إلا أن الحكومة التونسية لم تؤكد مقتلهما. ووجهت عائلتا الصحفيين ومجموعات معنية بحرية الصحافة انتقادات للسلطات التونسية ووصفتها بأنها كانت بطيئة ومتكتمة في الاستجابة لهذه القضية.
وقال سامي القطاري، والد الصحفي نذير القطاري، للجنة حماية الصحفيين، “لقد تعاملنا مع حكومتين وأظهرت كلتاهما الموقف ذاته، وهو عدم الاكتراث. ولم نحصل على أي دعم نفسي أو اجتماعي من الحكومة”.
ودعت عدة جماعات تونسية ودولية معنية بحرية الصحافة الحكومة بأن تؤسس وحدة أزمات مؤلفة من ممثلين عن الحكومة وعن المجتمع المدني. ومن شأن هذه الوحدة أن تحقق التنسيق وأن تضفي الشفافية على عملية تحديد مكان الصحفيين وإبلاغ أسرهم وزملائهم بمكان وجودهم. وما زال تأسيس هذه الوحدة قيد النقاش، وفقاً لتصريح صادر عن نقابة الصحفيين. وفي أغسطس/آب، صرّح وزير الخارجية التونسي، الطيب البكوش، لوكالة الأنباء التونسية الرسمية بأن معلومات جديدة توفرت حول القضية، وأنه يحتمل أن يكون الصحفيان على قيد الحياة، إلا أنه لم يقدم أية تفاصيل أخرى.
لقد بات الصحفيون عالقين في موقف بين القوات الحكومية من جهة وبين الجماعات المتطرفة التي تعهدت الحكومة بمكافحتها. وثمة تبعات سلبية لهذا الموقف على حرية الصحافة، إذ يدفع وسائل الإعلام لأن تظهر تحالفها مع الحكومة، ويثبط الصحفيين عن تغطية موضوعات إخبارية محددة رغم أهميتها للمصلحة العامة. ويظهر أن مناخ التهديدات الناتجة عن التشريعات المتشددة، إضافة إلى إفلات الجناة من العقاب في حالة الاعتداءات التي ترتكبها قوات الأمن وجهات أخرى ضد الصحفيين، بدأ بالفعل ببث الخوف لدى وسائل الإعلام، إذ أخذ المحررون الصحفيون ومالكو وسائل الإعلام يظهرون تردداً في نشر أو بث تغطية صحفية ناقدة.
بدأت ثلاث صحفيات يعملن في الصحيفة اليومية الخاصة ‘ التونسية‘ اعتصاماً في 4 مايو/أيار احتجاجاً على ما وصفنه بالرقابة والضغوط الشديدة التي يمارسها محررو الصحيفة. وبعد ثلاثة أيام على الاعتصام، بدأت مفاوضات بين ممثلين عن مالكي الصحيفة وممثلين عن نقابة الصحفيين وبين الصحفيات المعتصمات، جيهان الغماري وإيمان الحامدي وبسمة الواعر، وتم الاتفاق على تحسين الوضع المهني وظروف العمل لموظفي الصحيفة.
وقالت جيهان الغماري للجنة حماية الصحفيين إن محرري الصحيفة منعوها من تغطية موضوعات معينة، من قبيل قضايا الفساد أو تقصير قوات الأمن. وأضافت أن المحررين غيروا محتوى مقالاتها في حالات أخرى ودون إعلامها أو استئذانها قبل نشر المواد.
وقالت الغماري، “أنا ممنوعة من كتابة تحليلات، وغالبا ما يحقق المحررون معي حول محتوى كتاباتي”. وامتنعت إدارة صحيفة ‘التونسية‘ عن التعليق على هذه المزاعم.
وأفاد معز السمراني للجنة حماية الصحفين، وعمل سابقاً صحفيا تحقيقيا في قناة ‘التونسية’، أنه وجد صعوبة في بث تحقيقاته حول الفساد في جهاز القضاء وقوات الأمن. وقال، “أبلغت عدة مرات بأن ألتزم الصمت”. ورفضت القناة التعليق على هذا الزعم.
في هذه الأثناء، كانت الهيئة المسؤولة عن تنظيم البث مركزا لخلاف أدى إلى انقسام في أوساط الصحفيين. وقد ظلت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري، والتي يفترض بها تنظيم القنوات الإذاعية والتلفزيونية التونسية، مصدراً للخلاف منذ تأسيسها في مايو/أيار 2013.
لقد كانت الغاية من تأسيس هذه الهيئة فرض الفصل بين الأحزاب السياسية وبين ملكية وسائل الإعلام، وهي تتألف من تسعة أعضاء يجري تعيينهم من قبل ست هيئات، هي: المجلس التشريعي، والسلطة التنفيذية، والقضاء، والمنظمات الصحفية، والمنظمات التي تمثل المهن غير الصحفية في قطاع الإعلام، ومنظمة مالكي وسائل الإعلام والاتصال. وتحظر قواعد الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري على حاملي تراخيص وسائل الإعلام وعلى أدارات وسائل الإعلام المرخصة أن يكونوا أعضاء في أحزاب سياسية.
ووجه بعض أصحاب المشاريع الإعلامية ممن ينتمون أيضاً لأحزاب سياسية، انتقادات للقواعد التي وضعتها الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري ووصفوها بأنها تقيد حريتهم بالتعبير، كما شككت عدة وسائل إعلام محلية وأحزاب سياسية بحيادية الهيئة.
وأعرب آخرون عن دعمهم لقواعد الهيئة العليا، وقال هشام السنوسي، عضو الهيئة العليا، إن القائمين على وضع القواعد تعرضوا لضغوط من رجال أعمال وسياسيين متنفذين ممن يسعون إلى “امتلاك وسائل إعلام لتوجيه الرأي العام”.
وتعرضت قناة ‘الزيتونة’ الإسلامية الخاصة للاستهداف بصفة خاصة. فقد رفضت الهيئة العليا المستقلة منحها ترخيصاً لأن مديرها كان عضوا أيضاً في مجلس قيادة حزب سياسي إسلامي، وهو حزب النهضة الذي استلم السلطة سابقاً. ثم استقال المدير وقدمت قناة ‘الزيتونة’ طلباً جديداً للحصول على ترخيص، إلا أن الهيئة العليا أبلغتها بأنه يتعين عليها الإغلاق قبل أن تنظر الهيئة في طلبها الجديد. وقد استمرت القناة بالعمل، وفي يوليو/تموز حاولت الهيئة العليا المستقلة مصادرة معداتها، بيد أن المعدات كانت قد نقلت إلى مكان آخر. وقال مدير تحرير قناة ‘الزيتونة’، لطفي التواتي، إن القناة مُنعت من الحصول على ترخيص بسبب ميولها الإسلامية.
ورداً على ذلك، قال السنوسي للجنة حماية الصحفيين إن قناة ‘الزيتونة’ هي “واجهة للعمل الحزبي، وأن مصادرها المالية مجهولة المصدر”.
تعرضت الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري لمزيد من الإضعاف من جراء استقالة أربعة أعضاء على الأقل خلال العام الحالي والعام الماضي، وبرر المستقيلون ذلك بأن الهيئة لا تحترم التعددية والتنوع وأنها تتخذ قرارات تهدد استقلال وسائل الإعلام. وكانت الاستقالة الأخيرة في أبريل/نيسان قد أفقدت الهيئة النصاب اللازم لها كي تعمل، وتدخلت الحكومة وأصدرت مرسوما عينت بموجبه ثلاثة أعضاء جدد.
من المتوقع أن يعدل البرلمان القانون الذي ينظم الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري وعضويتها، وأن يستبدلها بهيئة جديدة ينتخب البرلمان أعضاءها، ولكن لم يكن واضحاً عند كتابة هذا التقرير متى سيجري هذا التعديل.
وإذ تواجه الحكومة التونسية تحديات حقيقية ومتزايدة، يجب عليها أن تجد طريقة لتحقيق التوازن بين حماية المواطنين وبين المحافظة على مكتسبات الثورة. وينبغي على الحكومة أن تعمل مع المعارضة ومع المجتمع المدني لضمان أن القوانين الجديدة تتماشى مع الدستور التقدمي ومع المعايير الدولية. فثمة نزعة لدى الحكومة بأن تستجيب إلى التهديدات الإرهابية من خلال اتخاذ إجراءات تضعف حرية الصحافة وغيرها من الحريات والحقوق، وهذه الإجراءات تضع الصحفيين في خطر ومن المحتمل أن تحرم الجمهور من المعلومات الضرورية. وبوسع الحكومة أن تحقق الكثير للمحافظة على مناخ حرية الإعلام ضمن مجتمع صحي، وذلك من خلال معالجة التهديدات التي يواجهها الإعلام من التشريعات المتشددة، ومكافحة الإفلات من العقاب في الاعتداءات التي تستهدف الصحفيين، والانخراط في حوار مع المجتمع المدني.
ساهمت في هذا التقرير ياسمين الرفاعي، وهي موظفة أبحاث في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التابع للجنة حماية الصحفيين.
صفاء بن سعيد هي صحفية مستقلة تعمل في تونس وتركز على العدالة الانتقالية وحرية التعبير. وعملت سابقاً مديرة غرفة أخبار في الموقع الإلكتروني الإخباري ‘تونسيا لايف’.
توصيات لجنة حماية الصحفيين إلى الحكومة التونسية:
- كبح نزعة التهديدات التشريعية للصحافة، من خلال الإيقاف الفوري لخطط تقديم أو إقرار تشريعات يمكن أن تهدد الصحفيين، بما في ذلك مشروع قانون الجرائم الإلكترونية ومشروع قانون زجر الاعتداء على القوات المسلحة.
- الالتزام علناً بتنفيذ إجراءات الحماية المتوفرة حالياً، بما في ذلك المرسوم رقم 115، الذي يحظر سجن الصحفيين بسبب عملهم، وإعادة تقديم مسودة القانون الأساسي حول الحق في الوصول إلى المعلومات، وعرضه على البرلمان.
- تعديل تشريع مكافحة الإرهاب لتضييق تعريفه “للجرائم الإرهابية” و “وأسرار الأمن الوطني”، وضمان عدم استخدام القانون ضد الصحفيين الناقدين.
- تزويد الصحفيين الذين يواجهون تهديدات من الجماعات المتطرفة المسلحة بحماية كافية وإجراء تحقيقات شاملة بشأن هذه التهديدات.
- ضمان إخضاع قوات الأمن للمساءلة بسبب الاعتداءات على الصحفيين، ونشر نتائج التحقيقات بشأن الاعتداءات التي ترتكبها قوات الشرطة. وتوسيع الجهود لتدريب الشرطة على كيفية العمل مع الصحفيين أثناء التظاهرات وفي الأوضاع الحساسة الأخرى.
- تشكيل وحدة أزمات، بالتشاور مع المجتمع المدني التونسي، مؤلفة من ممثلين عن الحكومة والمجتمع المدني، بغية التصرف بشأن قضية الصحفييَن سفيان الشواربي ونذير القطاري المفقودين في ليبيا.
- إسقاط التهم المتبقية الموجهة ضد نور الدين المباركي وأي صحفيين آخرين يواجهون اتهامات بسبب تغطيتهم الإخبارية.
- ضمان مراعاة التنوع والاستقلال عن التأثير السياسي أو الحزبي في تشكيلة الوكالة الجديدة المكلفة بتنظيم الصحافة والتي ستخلف الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري.